الإعلام الإلكتروني: واقعٌ متغيّر وطموحٌ لا يعرف الحدود

في خضم الثورة الرقمية التي غيّرت وجه العالم، ظهر الإعلام الإلكتروني كأحد أبرز معالم التحول الحضاري في القرن الحادي والعشرين. لقد قلب هذا النوع من الإعلام المعايير التقليدية رأسًا على عقب، وأعاد صياغة مفاهيم التلقي والتأثير والانتشار، ليجعل من الإنترنت منصةً بديلةً تتجاوز في تأثيرها كل ما سبقها من وسائل الإعلام. لم يعد الإعلام حكرًا على الصحف الورقية أو القنوات الفضائية، بل أصبح فضاءً مفتوحًا لكل من يمتلك القدرة على إنتاج المحتوى وتوزيعه. ومع هذا التحول، ظهرت تحديات جديدة وطموحات أكبر تتعلق بمدى قدرة الإعلام الإلكتروني على صناعة وعي جماهيري مسؤول، وبناء فضاء معرفي يحترم المهنية والموضوعية.

التحول من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الإلكتروني

عرف الإعلام منذ بداياته أشكالًا متنوعة تمثلت في الصحافة الورقية، الإذاعة، والتلفزيون، وقد ارتبطت هذه الوسائط بمراكز قوة اقتصادية وسياسية كانت تتحكم إلى حد كبير في اتجاهات الرأي العام. إلا أن ظهور الإنترنت وانتشاره السريع أحدث شرخًا كبيرًا في هيكل السيطرة التقليدية. أصبحت منصات النشر الإلكتروني تتيح للأفراد والمؤسسات إنتاج المحتوى وبثّه لجمهور واسع دون الحاجة إلى تراخيص رسمية أو تجهيزات ضخمة. هذا الانتقال النوعي أسهم في نشر المعلومة بسرعة، وفي خلق مساحات حوارية حرة تجاوزت الرقابة الرسمية والمعايير البيروقراطية.

الإعلام الإلكتروني لا يُعنى فقط بنقل الأخبار والمعلومات، بل يقدّم أيضًا خدمات تفاعلية تسمح للجمهور بالمشاركة في صياغة الرسائل الإعلامية، والتعبير عن الرأي، وحتى في نقد المادة الإعلامية ذاتها. هذا التفاعل غيّر طبيعة العلاقة بين المرسل والمتلقي، فبدلاً من أن يكون الجمهور مجرد مستقبل سلبي، أصبح شريكًا فعّالًا في عملية الاتصال.

خصائص الإعلام الإلكتروني

يتميّز الإعلام الإلكتروني بجملة من الخصائص النوعية التي تميّزه عن نظيره التقليدي، ومن أبرزها:

• التفاعلية: تُمكّن التقنيات الرقمية المستخدم من أن يكون مشاركًا في إنتاج الرسالة الإعلامية، من خلال التعليقات والمشاركة والمناقشة الفورية.

• السرعة والآنية: يتيح الإعلام الإلكتروني نقل الأخبار لحظة بلحظة، وبذلك يختصر المسافات الزمنية التي كانت تفصل الحدث عن الجمهور.

• الانتشار الواسع: بفضل الإنترنت، يمكن للمعلومة أن تصل إلى ملايين الأشخاص في لحظات، متجاوزة الحدود الجغرافية والثقافية.

• التنوع في الشكل والمحتوى: تتنوع المواد الإعلامية ما بين المقالات، الصور، الفيديوهات، البودكاست، وغيرها، مما يمنح الجمهور خيارات واسعة في التلقي.

• سهولة الوصول: يمكن للجمهور الاطلاع على المحتوى في أي وقت ومن أي مكان، باستخدام الهواتف الذكية أو الحواسيب المحمولة.

الإعلام الإلكتروني والحرية الإعلامية

من أبرز المظاهر التي ميّزت الإعلام الإلكتروني هي فسح المجال أمام حرية التعبير. فقد أزاح هذا الإعلام حواجز المنع والمصادرة التي كانت مفروضة في الإعلام التقليدي، مما سمح للعديد من الأصوات المقموعة أن تجد لها منبرًا للتعبير. إلا أن هذه الحرية لم تكن دائمًا إيجابية، إذ فتحت الباب أيضًا أمام فوضى إعلامية تمثلت في انتشار الشائعات والمعلومات المضللة، وظهور ما يُعرف بـ “صحافة المواطن” التي لا تخضع في الغالب لأي معايير مهنية أو أخلاقية.

الحرية الإعلامية التي يوفرها الإعلام الإلكتروني لا تعني بالضرورة التسيّب. بل إن الحاجة أصبحت ماسة أكثر من أي وقت مضى لسنّ تشريعات تنظم هذا الفضاء المفتوح، مع الحفاظ على حق الأفراد في التعبير والتلقي. فالفوضى المعلوماتية لا تقل خطورة عن الرقابة القمعية، وكلاهما يؤدي إلى تشويه الوعي العام وتعطيل الدور الحقيقي للإعلام.

الإعلام الإلكتروني وصناعة الرأي العام

يلعب الإعلام الإلكتروني دورًا متناميًا في تشكيل الرأي العام وتوجيهه. فقد أصبحت منصات التواصل الاجتماعي وسيلة فعالة للتأثير في اتجاهات الأفراد والجماعات، سواء من خلال الحملات الإعلامية أو البروباغندا السياسية أو حتى ما يُعرف بـ “الجيوش الإلكترونية”. وبفضل قدرات الاستهداف الدقيق، أصبحت الرسائل الإعلامية تُصاغ حسب اهتمامات الجمهور وسلوكهم الرقمي، مما زاد من تأثيرها وفعاليتها.

غير أن هذا التأثير يحمل في طياته مخاطر كبيرة، خصوصًا في ظل غياب معايير مهنية واضحة. فسهولة إنتاج المحتوى وسرعة انتشاره جعلا من الصعب التحقق من صحته، مما أدى إلى تضليل الجمهور في كثير من الأحيان. كما أن تحكم الخوارزميات في توزيع المحتوى أدى إلى خلق ما يُعرف بـ “فقاعات الرأي”، حيث لا يرى المستخدم سوى ما يتفق مع قناعاته، مما يعمّق الانقسام ويُضعف الحوار المجتمعي.

التحديات التي تواجه الإعلام الإلكتروني

رغم الطفرات النوعية التي حققها الإعلام الإلكتروني، إلا أنه يواجه تحديات بنيوية ومهنية كبيرة تعيق طموحه في أن يكون إعلامًا نوعيًا ومسؤولًا. من أبرز هذه التحديات:

1. ضعف المصداقية

تُعَدّ المصداقية من أهم مقومات العمل الإعلامي، لكنها تواجه تهديدًا حقيقيًا في بيئة الإعلام الرقمي، بسبب كثرة المواقع التي تنشر الأخبار دون تدقيق أو تحرٍّ، مما يؤدي إلى انتشار الإشاعات والمعلومات الكاذبة.

2. غياب المهنية

الكثير من المحتوى الإعلامي الإلكتروني يُنتج دون مراعاة للمعايير المهنية كالتوازن، والحياد، والتحقق من المصادر. هذا ينعكس سلبًا على صورة الإعلام الإلكتروني، ويضعف من تأثيره الإيجابي على المجتمع.

3. الهيمنة التكنولوجية

أصبحت الشركات الكبرى كـ”ميتا” و”غوغل” و”أمازون” تتحكم بشكل كبير في تدفّق المعلومات والإعلانات، مما يُخضع الإعلام الإلكتروني لمنطق السوق ويُضعف استقلاليته.

4. الأمن السيبراني

تعرض المواقع الإخبارية ومنصات الإعلام الإلكتروني لهجمات إلكترونية وقرصنة يُهدد سلامة المعلومات، ويُعرض الصحفيين والمصادر لخطر حقيقي.

5. صعوبة تحقيق الربحية

رغم الانتشار الواسع، إلا أن العديد من منصات الإعلام الإلكتروني تعاني من صعوبات مالية بسبب تراجع الإعلانات أو اعتماد نماذج اقتصادية غير مستدامة.

طموحات الإعلام الإلكتروني في العالم العربي

رغم العقبات، فإن الإعلام الإلكتروني في العالم العربي يشهد تطورًا ملحوظًا، ويعكس تطلعات شعوب المنطقة نحو إعلام أكثر حرية وفعالية. تتزايد أعداد المواقع الإخبارية، وتنشط المبادرات الشبابية في مجالات الإعلام الرقمي وصحافة البيانات، وتنمو نماذج جديدة للإعلام المستقل.

من أبرز الطموحات التي يُمكن تحقيقها على المدى القريب والمتوسط:

• بناء مؤسسات إعلامية إلكترونية ذات مصداقية: من خلال الاستثمار في تدريب الكوادر الصحفية الرقمية، واعتماد سياسات تحريرية واضحة تقوم على الشفافية والمهنية.

• تعزيز المحتوى المحلي الرقمي: فالإعلام الإلكتروني لا يزال يُعاني من التبعية للمصادر الأجنبية، والحاجة ملحّة لإنتاج محتوى محلي يعكس الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي للدول العربية.

• تبنّي الذكاء الاصطناعي في العمل الإعلامي: عبر استخدام الخوارزميات في تحليل المحتوى، والتعرف على توجهات الجمهور، وتقديم تجربة إعلامية أكثر تخصيصًا وجودة.

• ضمان الاستقلال المالي للمؤسسات الإعلامية: عبر تنويع مصادر التمويل، والاعتماد على الاشتراكات، والدعم المجتمعي، دون الارتهان لإعلانات تؤثر على استقلالية التغطية.

الإعلام الإلكتروني والتعليم والثقافة

واحدة من الوظائف المهمة التي يقوم بها الإعلام الإلكتروني هي التثقيف ونشر المعرفة. فقد أصبحت المنصات الرقمية مصدرًا أساسيًا للمعلومات لدى فئات واسعة من المجتمع، لا سيما فئة الشباب. وانتشرت المبادرات التعليمية والثقافية على الإنترنت، كالقنوات التعليمية، والمدونات التخصصية، والدورات التدريبية المفتوحة، التي وفرت فرص تعلم موازية للتعليم الرسمي.

وإذا ما تم استثمار هذه الطاقات بالشكل الأمثل، يمكن للإعلام الإلكتروني أن يسهم في الحد من الأمية المعرفية، وتعزيز التفكير النقدي، ودعم القيم المدنية، وزيادة الوعي بالقضايا الإنسانية والبيئية.

الإعلام الإلكتروني والتنمية المستدامة

إن مساهمة الإعلام الإلكتروني في دعم أهداف التنمية المستدامة باتت ضرورة في عصر يشهد أزمات بيئية، واقتصادية، وصحية متزايدة. من خلال التوعية، والتحفيز المجتمعي، ورصد المخاطر، يمكن للإعلام الإلكتروني أن يكون شريكًا فاعلًا في تحقيق التنمية المستدامة. كما يمكن أن يُسهم في نشر الممارسات الصديقة للبيئة، والترويج لريادة الأعمال الاجتماعية، وتمكين الفئات المهمشة من إيصال أصواتها.

جدول يوضح الفروقات الجوهرية بين الإعلام التقليدي والإعلام الإلكتروني

خاتمة

الإعلام الإلكتروني ليس مجرد امتداد للإعلام التقليدي، بل هو ثورة في المفهوم والممارسة. لقد منح الأفراد حرية غير مسبوقة في التعبير، وأعاد تشكيل علاقة الإنسان بالمعلومة. إلا أن هذه الحرية تقابلها مسؤوليات جسيمة، تتعلق بضرورة تعزيز المصداقية، وضمان الجودة، ومحاربة التضليل، والسعي إلى إعلام يعزز القيم الإنسانية ويدعم النهضة المعرفية. إن طموحات الإعلام الإلكتروني لا تقف عند حدود التقنية، بل تمتد إلى بناء مجتمعات أكثر وعيًا وعدالة وانفتاحًا.

المراجع

• McQuail, Denis. Mass Communication Theory. 6th Edition. SAGE Publications, 2010.

• Pavlik, John V. Media in the Digital Age. Columbia University Press, 2008.